العالم الاديب شكري فيصل

يعد الدكتور شكري فيصل من اشهر العلماء والادباء حول العالم

حياة شكري فيصل

الدكتور شكري بن عمر فيصل علَّامة أديب بحَّاثة، أمين عام مَجْمَع اللغة العربية بدمشق، وُلِدَ بدمشق بحي العقيبة (1337هـ=1918م)، نشأ برعاية خاله العلَّامة الشيخ محمود ياسين، وفي مدرسته -مدرسة التهذيب الإسلامي- كان خاله مربِّيًا وموجِّهًا ومدرِّسًا، وأرشده لكسب العيش مبكرًا مع طلب العلم، درس بالمدارس الرسميَّة ومكتب عنبر، ودرس خلالها على الشيخ أبي الخير الميداني، والشيخ محمد سليم الحلواني، وانتفع بخزانة خاله العامرة بالمؤلَّفات الجليلة.

وبعد حصوله على الثانوية العامَّة التحق بكليَّة الآداب بالقاهرة وحصل على شهادتها سنة (1361هـ=1942م)، واشتغل بمهنة الوراقة خلال دراسته، ثُمَّ انتسب إلى كليَّة الحقوق بدمشق وحصل على شهادتها سنة (1366هـ=1946م)، وعُيِّنَ في لجنة تعديل برامج التعليم، ثم أُوفد إلى القاهرة للتحضير للدكتوراه، فالتحق بها وعمل ملحقًا ثقافيًّا لدى الجامعة العربية، وحصل على شهادة الماجستير سنة (1368هـ=1948م)، ثم في السنة التالية نال دبلوم معهد اللهجات العربية، وتقلَّد درجة الدكتوراه سنة (1371هـ=1951م)، وعاد ليعمل في لجنة البرامج التعليمية وأستاذًا مساعدًا في كلية الآداب، ثم صار أستاذًا سنة (1376هـ=1957م).

وأخذ يكتب في المجلَّات منذ شبابه، وانتسب إلى عصبة العمل العربي، وصار يكتب في جريدتها، ورشَّح نفسه للانتخابات النيابيَّة عن مدينة دمشق سنة 1954م، إلَّا أنَّه لم يحصل على الأصوات المطلوبة، وانتُخب عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية، ثم انتُخب أمينًا عامًّا سنة (1392هـ=1972م)، وعهد إليه برئاسة لجنة تاريخ ابن عساكر وطباعته، وشارك في ندوات ومهرجانات كثيرة، ثُم عُيِّن بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة أستاذًا ومشرفًا على رسائل الدراسات العليا، وترك مؤلَّفات كثيرة، منها: “الفنون الأدبيَّة”، و“مناهج الدراسة الأدبيَّة”، و“المجتمعات الإسلاميَّة في القرن الأول”، و“حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول”، و“تطوُّر الغزل بين الجاهليَّة والإسلام”، بالإضافة إلى دراساتٍ كثيرة.

ثناء العلماء والمفكرين على شكري فيصل

بعد هذا التعريف الموجز، وبعد هذا العطاء الكبير والمفيد، كان كثيرٌ ممَّن عرفه وعاشره مخلصًا له ووفيًّا، ولا يخلو الإنسان من الحُسَّاد، خاصَّةً لمن تميَّز بمواهب أكرمه الله بها كالدكتور شكري، إلَّا أنَّ الكثير من معاصريه وصَفُوه بعبارات التقدير والوفاء والإنصاف، ومنهم الشيخ علي الطنطاوي، الذي قال: “كان شكري فيصل عصاميًّا، خاض لُجَّة الحياة قبل أن يستكمل عدَّة خوضها، وجرَّب الطيران صغيرًا قبل أن ينبت ريش جناحيه، فمازال يضرب بهما يقوم ويقعد، ويرتفع ويقع، حتى قوي الجناحان، وامتدَّت قوادمهما، وقويت خوافيهما فعلًا وحلَّق”. وقال عنه صديقه الدكتور عدنان الخطيب: “كان شكري فيصل أديبًا موهوبًا، وناقدًا قويَّ العارضة، بالغ الحجَّة، واضح التعبير، سهل المفردات”. وقال الشيخ محمد بن لطفي الصبَّاغ: “فارسٌ من فرسان الكلمة، وعلمٌ من أعلام الأدب، ومجمعيٌّ نشيطٌ معروف”. وقال الأديب عبد الغني العطري: “شكري فيصل نجمٌ ساطعٌ في سماء الأدب، كوكبٌ متألِّقٌ في عالم الفكر، وبلبلٌ على دوحة الضَّاد، شعلةٌ متوهِّجةٌ وضَّاءة، علمٌ شامخٌ وقمَّةٌ في الأدب واللغة والأخلاق والتواضع”.

بعد هذا الوصف من كبار معاصريه، أُحبُّ أن أعرض فيما يأتي بعض ما رأيته منه من صفات قلَّ أن نجدها في شخصٍ واحد، وذلك بعد اتِّصالي به في الجامعة، والمجمع، والبيت، والحي، والسفر والغربة؛ فقد كنت أوَّلًا تلميذًا عنده، درست الأدب على يديه، وتعلَّمت تحقيق التراث بتوجيهاته وإرشاداته، واقتبست من أخلاقه وسلوكه الشيء الكثير، ثم أصبحت كأنِّي واحدٌ من أسرته وأهله، فكان يُعاملني معاملة الصديق لا التلميذ، والمحب والعطوف..

في مجمع اللغة العربية بدمشق

كان شكري فيصل أستاذنا عضوًا مجمعيًّا عاملًا معطاء، لم يترك أيَّ مجالٍ في سبيل رفع راية المجمع خفَّاقةً في كلِّ الأقطار العربيَّة والأجنبيَّة ممثلة بحضوره المؤتمرات اللغوية وندوات التعريب، وعندما انتخبه المجمع أمينًا عامًّا له، شهد حركةً غير عاديَّة في نشر التراث، فظهرت في مطبوعات المجمع كتبٌ كثيرةٌ قيِّمة من أمَّهات كتب التراث، امتازت بعددها الكبير ونوعيَّتها، فكانت مفخرةً لعهده المبارك.

صفات شكري فيصل وأخلاقه

إذا أردنا الحديث عن سلوكه الشخصي، فإنَّنا نجده قد تميَّز بأمورٍ قلَّ أن نجدها عند غيره، منها: برُّه بوالديه، ومنها وفاؤه -وهذا الخُلُق أصبح نادرًا، وخصوصًا في هذا الزمن المتأخر- فقد خصَّ أمَّه التي ربَّته، وخاله الذي علَّمه ووجَّهه، وخصَّ أساتذته الذين علَّموه -سواء في مكتب عنبر أو في مصر- بأفعالٍ تدلُّ على وفائه لهم قبل المقال.

ويجب ألَّا ننسى تواضعه الذي تميَّز به، وكان خُلقًا عفويًّا فيه، عرفه عنه الناس كلُّهم صغيرهم وكبيرهم، وكانت الابتسامة على وجهه الذي تقرأ فيه الطيب والبراءة والفطرة السليمة.

ومن صفاته المتميِّزة: الإيثار؛ فقد شغلته هموم أمَّته وواقعها عن نفسه، فكان دائم التفكير في سعادة أسرته ومن حوله من أهله وجيرانه وأصحابه خاصَّة، ووطنه وأمَّته عامَّة.

ومن مميِّزاته رحمه الله أسلوبه الأدبيُّ؛ فمَّما لاشكَّ فيه أنَّ أستاذنا تميَّز بأسلوبٍ خاصٍّ في الكتابة يُشبه أن يكون الطَّابع عليه، بصفاته التي تأخذ القارئ في مدارج في البلاغة، قلَّما أُتيحت لكثيرٍ من أهل العلم والأدب من أقرانه الذين لم يتمكَّنوا من موهبة الكتابة.

ويَعرف المقرَّبون من أستاذنا أنَّ قلمه سيَّال، ينساب بين يديه، طيِّعٌ لا يخذله متى شاء، يمتح فيه من مَعينٍ ثَرٍ، وذخيرةٍ غزيرةٍ، تسعفه الفكرة من جهة، وفي التعابير الجميلة المرصوفة بعضها إلى بعض من جهةٍ أخرى؛ ذلك أنَّه تخرَّج في فنِّ الكتابة بمدرسة مجلَّة الرسالة ومجلة الثَّقافة، واطَّلع على تلك الأساليب، ولاقت تلك الأساليب تربةً صالحةً أنبتت أسلوبًا كأسلوب الدكتور شكري وأثمرت.

كان شكري فيصل علمًا كبيرًا، وقمَّةً في الأدب واللغة والفكر والوطنيَّة والأخلاق والتواضع والخُلُق الرفيع، مع المحافظة والتمسُّك بقيم الإسلام ومبادئه.

كان أستاذًا جامعيًّا مبدعًا، ومجمعيًّا خالدًا، ومفكِّرًا عبقريًّا، أعطى الكثير لأمَّته، تخرَّج على يديه أجيال، واستفاد منه الكثيرون، ووجَّه وربَّى، وقدَّم خدماته لمن يعرف ولمن لا يعرف.

كان بأسلوبه الأدبيِّ ينطلق ليُحقِّق ما يُريده للأمَّة عن طريق العلم المفيد الذي ينهج النهج الإسلامي الصحيح، كان يبدأ هذا بنفسه وبأهله وبمن حوله من محبِّيه وتلامذته.

لهذا التميُّز والإبداع والخُلق كثُر حسَّاده، وكلَّما زادت مزايا المرء كثر حسَّاده، وكلُّ صاحب نعمةٍ محسود، وحاول حسَّاده أن يُفسدوا عليه حياته، فلم يقدروا، ولم يكن يلتفت إليهم؛ لأنَّه لم يكن لديه وقتٌ يُنفقه في التُّرَّهات، ولكنَّ الأمَّة لم تعرف قدره، ولم تعطه حقَّه من الوفاء وعرفان الجميل، وكاد فضله ينسى، وهذا بلا شك جحود ونكران للجميل؛ لأنَّه بذل النفس والنفيس في سبيل إسعاد الآخرين وتثقيفهم وتوجيههم وتربيتهم.

هذا جزء يسير مما يجب أن أذكره عن شمائل أستاذنا رحمه الله، ولا أجدني أوفيه حقّه، ولا أقوم بجزء ممّا له عليَّ من فضل ومنّة، فما هذه إلا سطور وفاء أُقدمها لروح أستاذي بيد خجلى، وقلب مضطرب؛ لعلّه يرضى عنّي وهو في سكينة مستقرّه الطاهر في بقيع الغرقد.

رحمك الله أيُّها الشيخ الجليل، وآنسك في مثواك الذي نزلت، وأنزل عليك سابغَ رضوانه، وغفر لك، ورفع منزلتك في الفردوس الأعلى.

وفاة شكري فيصل

وصعقني النبأُ المؤلم، الذي وافى أهلَه بدمشق ينعَى أستاذنا الجليلَ، الذي لم يحتمل جسمُه مباضعَ الجراحين السويسريين، وتوقفَ القلبُ الكبيرُ عن الخفقان ليلةَ السبت (17/11/1405هـ= 3/8/1985م)، ونُقل من جنيف إلى المدينة المنورة في (10/8/1985م)؛ ليرقد بجوار الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في بقيع الغرقد آمنًا مطمئنًّا مع الذين أنعم الله عليهم من الصحابة والشهداء والصالحينَ وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

وبقيت ذكرى الأستاذ الجليل تسري في عروقي مع دمائي، تزداد ألقًا يومًا بعد يوم، وأنا أتذكَّرُ شمائله العطرة، وأخلاقَه الطيبة، لا يغيبُ عن عيني شخصُه المحبوب، ولا تتبدَّدُ طلعته البهية، ولا تنمحي بسمتُه البريئة وبقي في نفسي أنموذجًا يُحتذى للعالِم المخلص الصادق الغيور، والمربي الرءوم، والصَّديق الصدوق؛ إذ كان علمًا شامخًا أبدًا في كلِّ مرحلةٍ من مراحل حياته، وفي كلِّ حالٍ من أحواله، وفي كلِّ شأنٍ من شئونه[1]، رحمه الله وجزاه عنَّا خير الجزاء.

_________________

[1] للتوسُّع في ترجمته انظر: تاريخ علماء دمشق، الجزء الثالث، 457، عبقريَّات من بلادي؛ لعبد الغني العطري، ص238، الدكتور شكري فيصل وصداقة خمسين عامًا؛ للدكتور عدنان الخطيب، مجلة مَجْمَع اللغة العربية بدمشق ،سنة 1406هـ=1986م، ولمحمد مطيع الحافظ: (شكري فيصل: العالم الأديب المجمعي) صدر عن دار القلم ضمن سلسلة علماء ومفكرون معاصرون سنة 1431هـ=2010م.