امير الشعراء احمد شوقي

الشاعر احمد شوقى لقب بامير الشعراء وهو شاعر مصرى الجنسية كان شعره يجمع بين تأثره الدينى والسياسى

مولد أحمد شوقي أمير الشعراء ونشأته

وُلد أحمد شوقي أمير الشعراء في 16 أكتوبر سنة 1868م، أبصر شوقي نور الحياة في قصر الخديوي إسماعيل في القاهرة.

يقول أحمد شوقي أمير الشعراء عن أصله: إنه عربي، وتركي، ويوناني، وجركسي، أمَّا ولادته فكانت في مصر، أي إنه سليلُ أصول أربعة، وقد جعله هذا الاختلاط دائم الترجح بين العرب والأتراك، وبين الحاكم والمحكوم، أمَّا ثقافته فكانت عربيَّة وتركيَّة وفرنسيَّة، وقد استطاع الاطلاع على الشعر العربي والتركي والأوربي، مما جعله يستفيد من مختلف التيارات الشعريَّة.

وقد أدَّى تقرُّب أهله من الخديوي إسماعيل إلى فتح المجال واسعًا أمامه، من أجل أن يتلقَّى علومه كاملة في مصر أوَّلاً وفي فرنسا ثانيًا.

وبعد تخرُّجه من مصر عَمِلَ أحمد شوقي أمير الشعراء بعض الوقت في قصر الخديوي توفيق، الذي عيَّنه الإنجليز بعد خلع الخديوي إسماعيل، وكان يَنْظِم له قصائد المدح، فأرسله ضمن بَعثة إلى فرنسا، لإكمال دراسته، وبعدها أمضى أربع سنوات بين مونبيليه وباريس، وحصل على شهادة الحقوق.

وفي سنة 1892م تُوُفِّيَ الخديوي توفيق، وتولَّى الحكم ابنه الخديوي عباس حلمي، فبقي أحمد شوقي على عَلاقة وثيقة مع الخديوي الجديد، يَنْظِم له قصائد المدح في مناسبات مختلفة.

وبقي أحمد شوقي أمير الشعراء ينسج على هذا المنوال مدَّة طويلة من عمر الزمن، متجاهلاً ما يحدث خارج أسوار قصر الخديوي، وأكثر من ذلك فإن أحمد شوقي لم يتردَّد في هجاء القائد الوطني أحمد عرابي بعد عودته من المنفى، كما أنه تردَّد في البداية في رثاء صديقة القائد الوطني مصطفى كامل.

ولم يتبدَّل أحمد شوقي -أو بالأحرى ينزل من بُرْجِه العاجي- إلاَّ بعدما خلع الإنجليز الخديوي عباس حلمي، الذي كان يُعَالج في إسطنبول، وأعلنت مصر محمية بريطانية، وعيَّنت مكانه السلطان حسين كامل، وبعدما فشل شوقي في التقرُّب من الحكم الجديد، حيث نفته بريطانيا في سنة 1915م، وذهب إلى برشلونة في إسبانيا.

دور أحمد شوقي في تطوير الشعر

سمحت السلطات الإنجليزية للشاعر أحمد شوقي بالعودة إلى مصر في سنة 1920م، فأصبح بعدها شاعر الشعب، بعدما كان شاعر السلالة الخديوية‍.

تكمن أهمية شوقي في أنه جاء بعد الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839- 1904)، حاملاً مشعل التجديد عند تخوم مملكة الشعر العربي المعاصر، معبِّرًا عن تجربته الخاصَّة، وتجربة عصره، ممهِّدًا الطريق أمام شعراء العرب الجُدُدِ، الذين ساهموا مساهمة فعَّالة في تطوير الشعر العربي.

وفي سنة 1927م -والتي تمَّ فيها إعادة طبع ديوانه “الشوقيات”- بايعه على إمارة الشعر شعراء العرب؛ مثل: حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وشبلي الملاط، وأمين نخلة… وغيرهم، ويومَها ألقى حافظ إبراهيم القصيدة التي جاء فيها:

أميرَ القوافي قدْ أتيتُ مبايعًا *** وَهَذِي وُفُودُ الشرقِ قد بايعتْ معِي[1]

عصر التحديات والتغني بالأمجاد

عاصر أحمد شوقي فترة مهمَّة من فترات تطوُّر العالم الإسلامي، فاندمج فيها بالإيجاب، وحاول أن يعبَّر عن همومه الوطنيَّة في إطار إسلامي خالص، ونستطيع أن نطلق على الفترة التي عاش فيها أحمد شوقي عصر التحدِّيات؛ إذ كانت التحديات التي واجهت المنطقة الإسلاميَّة من الجسامة بحيث راح الفكر الإسلامي يستعيد فتوَّته مرَّة أخرى للرَّدِّ عليها.

ففي النصف الثاني من القرن الماضي كانت تركيا دولة الخلافة الإسلاميَّة تعاني من ويلات التطوُّر وهجمات الغرب، فراحت هذه الإمبراطوريَّة التي حفظت العالم الإسلامي لقرون تهبط من عليائها نتيجة بُعدها عن القيم الإسلاميَّة الصحيحة، فشهدنا سقوط الجزائر في يد فرنسا، وما لبثت أن سقطت تونس في يَدِ فرنسا أيضًا عام 1881م، وجاءت إنجلترا لتحتلَّ وادي النيل كله (مصر والسودان) عام 1882م، وتتابعت مناطق النفوذ؛ لتقع مَرَّاكُش في يَدِ الفرنسيين منذ عام 1904م، وتحتلّ إنجلترا مناطق إسلاميَّة أخرى بعيدة، ثم لا تنسى إيطاليا نصيبها من الغنيمة فتحتلُّ طرابُلُس عام 1912م، ليمتدَّ الاستعمار الغربي إلى بقيَّة أجزاء العالم الإسلامي، وما لبث أن أُضيف إلى هذا الاستعمار التخلُّفُ الذي سقطت فيه الولايات الإسلاميَّة، ففي حين كان الغرب يوالي انتصاراته الحضاريَّة، كانت الدول الإسلاميَّة ترزح تحت كابوس الجهل والفقر والتخلُّف، ممَّا مثَّل هزيمة أخرى للأمة الإسلاميَّة كلها.

وفي أثناء هذه الحالة المتردِّية للعالم الإسلامي ظهرت أصوات مخلصة تنادي بعودة المسلمين إلى النبع الإسلامي الصافي، وكان أحمد شوقي أهمَّ الرموز التي واجهت هذا المناخ الرديء، ومن ثم توالت نتاجاته الشعريَّة الدينيَّة في شتى الاتجاهات وفي شتى المناسبات، وفي هذه الفترة يلاحظ د. أحمد الحوفي أنَّ شوقي كان حفيًّا بدينه إذ ساير كل الأحداث.

ونستطيع أن نتلمَّس أحمد شوقي كشاعر إسلامي مُجِيدٌ حين خصَّ قصيدته الطويلة العصماء (كبار الحوادث في وادي النيل) عام 1894م ليؤرِّخ للمجد الإسلامي؛ حيث كانت البُلدان الإسلاميَّة تعاني من ضراوة الغرب الذي كان في سبيله للسيطرة على هذه البُلدان، فجعل أبناء عصره يَرَوْنَ الحاضر الرديء في مرآة الماضي الإسلامي المشرق، وهي قصيدة طويلة جدًّا تحتاج إلى وقفات طِوَال.

ثم بدأ يتغنَّى بمجد الخلافة العثمانيَّة على اعتبار أنها رمز للحضارة الإسلاميَّة، قبل أن تسقط هذه الخلافة فيرثيها خيرَ رثاء، كما لم ينقطع شعر شوقي عن الأغراض الدينيَّة، فله العديد من القصائد في الإيمان بالله وفي التذكير بفضل الرسول، وأكثر ما كان يميِّز شعر أحمد شوقي أنه لم يكن نظمًا باهتًا أو مقلّدًا، وإنما كان داعيًا للصحوة واليقظة إلى مجد الإسلام، ولم يكن ليترك مناسبة أو حادثًا دون أنْ يستفيد منه لتأكيد هذا الجانب؛ ففي أثناء الاحتفال بمناسبة أحد الأعوام الهجريَّة الجديد، قال بعد مقدِّمة عامَّة:

هذا هلالكم تكفَّل بالهدى *** هل تعلمون مع الهلالِ ضَلالا

صوت الحضارة حِقْبة في ضوئه *** ومشى الزمانُ بنوره مختالا

وبنى له العرب الأَجَاود دولة *** كالشمس عرشًا والنجوم رجالا

رفعوا له فوق السِّمَاك دعائمًا *** مِن عِلْمِهم ومن البيان طِوَالا[2]

وإسلاميات أمير الشعراء أحمد شوقي تتنوَّع وتتعدَّد، إذ إن أغلب شعره يغلب عليه الجانب الإسلامي، وحتى حين كان يتحدَّث في الوطنيَّات، أو يهاجِم المستعمِر، كان ينطق من العقيدة الإسلاميَّة إيمانًا منه أن عودة المسلمين لإسلامهم هو السبيل الوحيد لتحرير البلاد، وعند استعراض أشعار أحمد شوقي نجد أنها تتوزَّع بين عديد من الجهات؛ فإسلامياته ضمَّت العبادات والشعائر، وأيضًا شملت المدائح النبويَّة، وكان لا يدع فرصة أو مناسبة دينيَّة إلاَّ وينْظِم فيها ليُرِينا كيف كان واقعنا الرديء في إطار الماضي الحضاري المزدهر والمنيف.

الجانب الإسلامي في شعر أحمد شوقي

كان صوت الشعائر لدى أحمد شوقي أعلى الأصوات على الإطلاق، إذ يذكر كثيرًا من الأبيات المفردة في قصائده الكثيرة، ليُدَلِّل على أهميَّة الصلاة، يقول:

خَفَافًا إلى الداعي سراعًا كأنما *** من الحرب داعٍ للصلاة مُثَوِّب[3]

كما يُضيف إلى الصلاة بقية الشعائر، فيقول في موضع آخر:

وصلِّ صلاة مَن يرجو ويخشى *** وَقَبْل الصَّوْمِ صُمْ عن كُلِّ فحشا[4]

كما تحدَّث أحمد شوقي عن فريضة (الحجِّ)، ويبرع في رسم عديد من الصور الفنِّيَّة؛ فإنه في قصيدة بعنوان (إلى عرفات) -والتي قالها بمناسبة حجِّ الخديوي توفيق- يقول:

إلى عرفات الله يا خيرَ زائر *** عليك سلام الله في عرفاتِ

ويوم تُوَلِّي وُجهة البيت ناظرًا *** وسيم مجالي البِشْرِ والقسماتِ

على كل أفْق بالحجاز ملائكُ *** تزفُّ تحايا الله والبركاتِ[5]

ويُلاحظ بعضنا أن أمير الشعراء أحمد شوقي يربط بين أركان الإسلام والخليفة العثماني، فكلَّما تمسك الحاكم بالإسلام، كانت قوَّته ونصره، فشخص الخليفة عنده يبدو رجل دين ودولة في آن واحد، قادرًا على إجادة التدبير السياسي للحكم، ومحقِّقًا المثل الأعلى والقدوة الطيبة لشعبه من خلال العبادات وأداء الفرائض وإقامة الشعائر؛ ولذا نلاحظ أن شعر شوقي المدحي عبارة عن لوحات تصويرية، تجمع بين القيادة والعبادة، ولم يكن نجاح الخليفة في قيادته إلاَّ نتيجةً طبيعيَّة لتمسكه بالشعائر؛ بل إن تبني قضايا الدين والدفاع عنها تتمثَّل في قدرة الخليفة على أداء هذه الشعائر والدفاع عن الإسلام.

أحمد شوقي أمير الشعراء والمدائح النبوية

غير أنَّ إسلاميات أحمد شوقي تظهر أكثر في المدائح النبويَّة، تلك المدائح التي كانت تطول حتى تصل إلى (كمٍّ) شعري هائل، وتعود أهمِّيَّة المدائح بوجه خاصٍّ إلى أنها كانت تتِّجه إلى الرسول r بكل ما في شخصيته من عظمة وقدوة حسنة ورجاء منشود؛ لذلك لم تكن المدائح تركِّز على الجانب الديني وحده، وإنما على الجانب الآخر السياسي على اعتبار أنَّ الرسول r ممثِّل الدنيا والدين، وعلى ذلك، فإن مديح الرسول r -فضلاً عن تعظيمه- كان يحتوي على كثير من أمور الحياة والحكم، إنه حين يُشير في إحدى هذه القصائد إلى ميلاد الرسول والآيات التي وضحت في الكون حينئذ، يضيف إلى ذلك كله معانيَ جديدة، يقول:

وحماها غُرٌّ كرَامٌ أَشدَّا *** ءُ على الخصْم بينهُمْ رحماءُ

أُمَّة ينتهي البيان إليها *** وتؤول العلوم والعلماء

تحمل النجم والوسيلة والميـ *** ـزانَ من دينها إلى مَن تشاء

وتُنيل الوجود منه نظامًا *** هو طبُّ الوجود وهْو الدواء[6]

ومِن أهمِّ إسلاميات أحمد شوقي على الإطلاق تبرز (البردة) القصيدة التي نظمها على غرار قصيدة الشاعر الإسلامي القديم البُوصِيرِيِّ، فعلى طريقة البُوصِيرِيِّ في افتتاحيَّته المشهورة، يقول أحمد شوقي:

ريمٌ على القاع بين البان والعلم *** أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرمِ

رمى القضاء بعَيْنَيْ جؤذر أسدًا *** يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجمِ[7]

ولا يلبث أن يقترب أكثر من مدح الرسول r:

فاق النبيين في خلق وفي خُلق *** ولم يدانوه في علم ولا كرم

وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم[8]

ويلاحظ أن محاكاة شوقي للبوصيري تصل إلى حدٍّ بعيد، إلى درجة التوسُّع في خصال الرسول وتبيين مكانته عند الله بكل فخر وخير، كما يتبعه في تسلسل الأحداث للوصول منها إلى العبرة، وقد بدا واضحًا اهتمامه خاصَّة بتشبيه الرسول r بالعلم وإنْ بدا التشبيه عند شوقي يتَّخذ شكل المقتدي به، وشبَّهه بالبدر في شكل أكثر وضوحًا، لنقرأ:

أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكُهُ *** والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ

لما خطرت به التفُّوا بسيِّدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم

أمَّا (الهمزية النبوية) التي يقول فيها شوقي:

وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ *** وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ

الروحُ وَالمَلأُ المَلائِكُ حَولَهُ *** لِلدينِ وَالدُنيا بِهِ بُشَراءُ

وَالعَرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي *** وَالمُنتَهي وَالسِدرَةُ العَصماءُ

وَحَديقَةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا *** بِالتُرجُمانِ شَذِيَّةٌ غَنَّاءُ

وَالوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ *** وَاللَّوحُ وَالقَلَمُ البَديعُ رُواءُ

نُظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهْيَ صَحيفَةٌ *** في اللَّوحِ وَاسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ

اسمُ الجَلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ *** أَلِفٌ هُنالِكَ وَاسمُ طَهَ الباءُ

يا خَيرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً *** مِن مُرسَلينَ إلى الهُدى بِكَ جاءُوا[9]

وفي هذه القصيدة يصل أحمد شوقي إلى درجة عالية في المدح النبوي، ويُلاحَظ أنَّ البوصيري وشوقي يتَّفقان في الأغراض، والاتفاق هنا في وحدة الموضوع لا يخفى؛ ولكن شوقي يختلف عن البوصيري بمثل ما اختلف عنه في أشياء أخرى إذ يختصّ بالحديث المستفيض حول خصائص الإسلام، وحكمه ومنهجه في سبيل الإصلاح، ولا بأس أنَّ محاكاة شوقي للبوصيري تُجاوز المديح إلى الصور والموسيقى والوزن والقافية والعبارات والتراكيب، كذلك في الأغراض وفي التأثُّر بالقرآن، وما إلى ذلك من صور المدح والشفاعة، وهذه المعاني لا تكثر في (البردة) و(الهمزية) فقط، بل تمتدُّ إلى عديد من قصائده الأخرى في هذا المجال، وهو ما يتأكَّد أكثر في شعر المناسبات في الإسلام.

المناسبات الدينية في شعر أحمد شوقي

ظهرت إسلاميَّات أحمد شوقي بشكل بالغ الثراء في المناسبات، ومن المناسبات التي برع فيها شوقي مناسبة الهجرة، وقد فصَّل الحديث عنها باصطحاب الرسول r لأبي بكر، فضلاً عن الإشارة لشجاعة الرسول r والإقدام على التخفِّي ليلاً، والإشارة إلى دخول الرسول والصدِّيق إلى الغار، يقول:

هَاجَرَ مِنْ أُمِّ الْقُرَى مَأْذُونَا *** وَمَا دَرَى أَوْ سَمِعَ المُؤْذُونَا

في ليلة للختل كانت موعدا *** قد نصبتها شَرَكًا أيدي العِدَا[10]

ويقول في موضع آخر:

وسار في ركابه الصِّدِّيقُ *** وفي البلاء يُعْرف الصَّدِيقُ[11]

وأهمية هذه المناسبات تعود إلى معانيها التي توحي بها، وهي التضحية من أجل العقيدة والبذل والفداء ويُسهب أحمد شوقي طويلاً في قصة مثل قصة (الإسراء والمعراج)، ليربط بين المناسبة الدينيَّة والمعاني التي تثيرها في وجدان المسلم، ويُسهب كذلك في مناسبات دينيَّة أخرى وفي مقدِّمتها شهر رمضان، وما فيه من شعور بالفقراء ويحذِّر الأغنياء من ظلم الفقراء، بل يُصَوِّر ضيقه الشديد بالشُحِّ والبخل داعيًا إلى البذل، كما يتَّضح في مثل هذه المناسبات الفكر الاجتماعي الناضج لدى شوقي، فهو في إحدى قصائده في هذا المجال يدعو الأغنياء لبذل أموالهم كدعوة للعدالة الاجتماعيَّة، يقول:

عَجِبتُ لِمَعشَرٍ صَلَّوا وَصاموا *** عَواهِرَ خِشيَةً وَتُقى كِذابَا

وَتُلفيهُمْ حِيالَ المالِ صُمًّا *** إِذا داعي الزَكاةِ بِهِمْ أَهابَا

لَقَد كَتَموا نَصيبَ اللَهِ مِنهُ *** كَأَنَّ اللَهَ لَمْ يُحْصِ النِصابَا

وَمَن يَعدِل بِحُبِّ اللَهِ شَيئًا *** كَحُبِّ المالِ ضَلَّ هَوًى وَخابَا

أَرادَ اللَهُ بِالفُقَراءِ بِرًّا *** وَبِالأَيتامِ حُبًّا وَارتِبابَا

فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ *** سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابَا[12]

كما اقتبس أحمد شوقي من القرآن الكريم، فآيات القرآن الكريم أصبحت المصدر الأوَّل الذي يستقي منه استشهاداته، فيقول مادحًا السلطان عبد الحميد:

وَإِنَّ أَميرَ المُؤمِنينَ لَوابِلٌ *** مِنَ الغَوثِ مُنهَلٌّ عَلى الخَلقِ صَيِّبُ

رَأى الفِتنَةَ الكُبرى فَوالى انهِمالَهُ *** فَبادَت وَكانَت جَمرَةً تَتَلَهَّبُ

إلى مُلكِ عُثمانَ الَّذي دونَ حَوضِهِ *** بِناءُ العَوالي المُشمَخِرُّ المُطَنَّبُ[13]

وقد استوحى الشاعر هذا المعنى من قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].

ومن ثم يُصبح المصدر القرآني ينبوعًا فيَّاضًا يستمدُّ منه شوقي ألفاظه، وصوره ومعانيه في جميع أغراضه، بل تصبح المصادر الإسلاميَّة المختلفة كالحديث والتاريخ لها دور بارز في شعره، بل التفافه حول المعاني الدينية الكلية، وتصاويره للجنَّة والنار والبعث، وبأنَّ النور مصدر الضياء في الدنيا والآخرة؛ لأنه حقيقة دينيَّة رُوحيَّة، وقد ورد مشهد الجنَّة عند شوقي كثيرًا في المدح وفي الرثاء والوصف، وتعتبر عنده من عالم الغيبيات، فقد قال في رثاء ( عمر لطفي ) العالم القانوني:

قفوا بالقبور نسائلْ عمر *** متى كانت الأرض مثوَى القمرْ؟

سلوا الأرض هل زُيِّنَتْ للعليمِ *** وهل أُرِّجَتْ كالجنان الحفرْ؟

وهل قام ( رضوان ) من خلفها *** يُلاقي الرضيَّ النقيَّ الأبرّ؟

فلو عَلِمَ الجمْع ممن مضى *** تنحَّى له الجمع حتى عبرْ

إلى جنَّةٍ خُلقتْ للكريم *** ومن عرف الله أو مَن قدرْ[14]

وقد استخدم أحمد شوقي في الأبيات السابقة صورة تفيض هدوءًا وأمنًا بعيدة عن مخاوف الحياة ومتاعبها، فالجنة خُلقت للكريم، وهذا مستوحًى من قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، وقد أورد شوقي اسم ( رضوان ) باستخدام اللفظ للدلالة على الملك حارس الجنة، فقد ورد اسمه في الأحاديث الشريفة، وإن لم يأت صريحًا في القرآن الكريم، لكنه ذكر في القرآن من الرضا، فقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15][15].

أغراض شعرية أخرى

لا ريب أن أمير الشعراء أحمد شوقي استطاع أن يُقرض شعره بتقارب وتمازج فكري ولفظي مع الشعراء العرب السابقين عليه، فكثير من هؤلاء الشعراء بلغ من البلاغة اللفظيَّة والتصاوير الفنية الأخَّاذة ما بهر شوقي بها، فأخذ يقرض شعرًا على ضربهم، ثم لم يلبث أن وازنهم وعارضهم فيما تقاولوه في شعرهم، ومن هذا خرج نوع شعري جديد هو شعر الموازنات.

وشعر الموازنات ضرب من الشعر يسير فيه الشاعر المتأخِّر مع المتقدِّم في نوع شعري معيَّن، ومن ذلك بكاء السابقين على الممالك البائدة، والأُسَر الشريفة التالدة، التي أمست بعد بلوغها المنازل العالية في نضوب حضاري؛ وأبكى ذلك كثيرًا من الشعراء القدماء والمتأخرين، كالبحتري قديمًا وشوقي حديثًا.

فقد تأثر أحمد شوقي تأثُّرًا بالغًا بسينية البحتري، التي خلَّدت كسرى وإيوانه بين الشعراء، وإن لم يدم كسرى ببدنه بين جنبات إيوانه!

فشِعْرُ البحتري عند أحمد شوقي أبلغ من جلي الأثر، وحشر العبر، فالبحتري قد بدأ سينيته، بالتبرُّم من العيش، وشكوى الزمان، والتنكُّر لظلم الأقربين؛ وكان ذلك لأن نزعته لم تكن اجتماعيَّة، وإنما كانت فردية، أمَّا شوقي فقد ابتدأ سينيته التي يصف فيها قصور الحمراء بالأندلس بقطعة وجدانيَّة تفيض بالحنان إلى مصر، وتزخر بالشوق إلى النيل -حينما كان في منفاه في إسبانيا- وهو كأنما يتكلَّم عن نفسه، ويحدث الناس عن شجونه، ولكنه في الواقع يتوجَّع لما يُعاني وطنه منه، من وطأة الظلم، ويتفجَّع لما تُقَاسي بلاده من قسوة الاضطهاد، فيبكي ملاعب شبابه، وعهود صباه، فيقول:

اختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي *** اذكُرا لِي الصِّبا وَأَيّامَ أُنسِي

وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ *** صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ

عَصَفَت كَالصِبا اللَعوبِ وَمَرَّت *** سِنَةً حُلوَةً وَلَذَّةُ خَلسِ

وَسَلا مِصرَ هَل سَلا القَلبُ عَنها *** أَو أَسا جُرحَهُ الزَمانُ المُؤَسِّي

مُستَطارٌ إِذا البَواخِرُ رَنَّت *** أَوَّلَ اللَيلِ أَو عَوَت بَعدَ جَرسِ[16]

فـ أحمد شوقي قد جعل حبَّه لبلاده أعزَّ من أن تنال منه الليالي، وجعل جرحه في هوى مصر أعضل من أن يطلب له الزمان، فالماضي في شعر شوقي يُصوِّر مدى التياعه وألمه الدفين، والألفاظ القويَّة التي استخدمها شوقي هي في حقيقتها تعبير مباشر وفعَّال عمَّا تعانيه نفسه، وما تجيش به عواطفه، ولن نستطيع أنْ نستقصي في هذه الصفحات القليلة ما تميَّز به شعر شوقي -خاصَّة في سينيته الرائعة- لكننا نستنبط منها أن شوقي شاعر عربي الهوى واللسان، فمنفاه في بلاد كستها كلُّ المدنية الأوربية، لم يُنْسِه ماضيه المصري العريق، الذي يرتبط ارتباطًا تاريخيًّا إسلاميًّا بالأندلس، وما تحويه من آثار يندى لها كلُّ مَنْ عَلِمَ (أصلها وفصلها)!

ولم يقف أحمد شوقي عند نوع بعينه من أنواع الشعر، بل ابتدع شعرًا جديدًا، أدخله إلى مصر من خلال ما اضطلع عليه من الآداب الأوربية، وخاصَّة الفرنسية منها، وهو الشعر المسرحي القصصي، صحيح أن هذا الشعر قد تطوَّر من الأقدم إلى الأحدث تطوُّرًا جيِّدًا من حيث ألفاظه ومضامينه، ومن حيث قيمته الأدبيَّة، ومن حيث نوعه، سواء كان واقعيًّا تاريخيًّا، أو كان هزليًّا، أو ضربًا مأساويًّا، إلاَّ أن قيمة هذا الشعر المسرحي لم تبرز كقراءة، بل برزت كأعمال مسرحيَّة أظهرت الأعمال الشعريَّة الجيِّدة لشوقي.

ولم يتوقَّف أمير الشعراء أحمد شوقي عند الشعر بأغراضه المختلفة، وإنما شمل إنتاجه الجانب النثري، وكان لشوقي أربعة قصص، جُمِعَتْ تحت مسمَّى “أسواق الذهب”، لكن الجانب النثري لم يحظَ عند النقاد بنفس الدرجة التي حظي بها شعره؛ لأن نثره كان محاكاة لأسلوب المقامة القديم دون أن يصل مستواه إلى الهمذاني أو الحريري[17].

أحمد شوقي أمير الشعراء

على أية حال فقد بلغ أحمد شوقي من المكانة الشعريَّة -بأغراضها المختلفة- مكانة مرموقة بين الشعراء، حتى لُقِّب بأمير الشعراء من أقرانه، وندماء عصره، وهو أمر جلي في شعره القوي الرصين، وأهدافه الباسقة العظيمة، وقد جُمعت أشعار شوقي في مجموعة شعرية معروفة هي “الشوقيات” تحوي دواوينه وأشعاره الغنائيَّة، وهو مطبوع متداول في ثلاثة مجلدات.

وفي 14 من أكتوبر سنة 1932م، تُوُفِّيَ أحمد شوقي في قصره المعروف باسم “كرمة ابن هانئ” القائم على ضفاف النيل في الجيزة.